١٧- جثث على الطريق السريع..

(الدكتور فريد شوقي)


في عملك بالمستشفى خصوصًا مع طاقم الطوارئ سيبدأ إحساسُك بالألم والفجع  بالاضمحلال يومًا  بعد  يوم، هذه هي ضريبة العمل لدى الطوارئ، ستنسى معنى كلمة إنسان، بل سترى مناظر الدماء كأنها مقطع دمويّ من فيلم ما تشاهده آخر السهرة في ضَجَر، تُصبِح في المهنةُ طبيبًا ذا قلبٍ رقيقٍ، وتُمسي طبيبًا يرى الدمَ المُراق ماءً. ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا، كأنما أيقظ ذلك الحادث أكوامًا من المشاعر التي أحرى بها أن تُوصف بثباتِ مشاعر طويل الأمد.

أدعى فريد، الدكتور فريد شوقي رئيس طاقم الطوارئ بمستشفى الجامعة، مُدَخِّنٌ شَرِه، لكني لا أدخن بشراهة إلا حينما أتعرضُ لصعقةٍ نفسية شديدة. في هذه الليالي التي لا تلد إلا المآسي أخرجُ عادة إلى رُدهة الاستقبال التي تُفضي إلى ساحة المستشفى الواسعة لأُدخن، والتي تعجُّ بعشراتِ المرافقين أو الزائرين النائمين في جنبات هذه الرُدهات، منتظرين جوابًا شافيًا من القدر في أحبتهم: هل سيسمحُ لهم بفرصة أخرى للنَهْل منهم ومن أنفاسهم التي كُتِب عليها البقاء من بعد تعليق، أم سيفرّق الموت ما كانت الحياة جامعةً.

وقفت مُدخنًا متفكرًا في هذه الحادثة.. حينما أُبلِغنا بالعثور على أجسادٍ مُلقاةٍ على الطريق السريع نتيجة إنفجار سيارة جمعتهم، شابان فَتيّان وفتاتان، كانت إحدى الفتاتين تتمتم فور وصولنا بالإسعاف بكلماتٍ غير مفهومة، وأنينٍ يتصدّع له قلبي الحجريّ، قرّبت آنذاك أذني من فمها كأنما أريد أن التقط كلمةً واحدة لأفهم بها ما تئنُّ به، ويا ليت أُذني صُمَّت آنذاك، فقد قالت جملةً كانت هي أوضح ما سمعت من تمتمتها "أختي، أنقذوا أختي" ومن ثم توقفت بعدها عن الكلام تمامًا، كل المؤشراتِ الحيوية الخاصة بها كانت تقول بأنها ميتة لا محالة، ولكن فورَ نقلِ الجميع لاحظنا أن الأخت الصغرى تتقلّب بين عالميْ الموتِ والحياة، عكس مارية التي كانت هامدةً تمامًا، كانت أختها تقف على الحد الفاصل متذبذبةً في قرارها، كأنها تكابدُ حيرةً ما، حتى دخلت في غيبوبةٍ كاملة، وها أنا ذا أنظر للسماء في تعجّب، مُدخنًا لفافة من الأسى والرثاء لحال تلك الأسرة.

نقلنا ماريّة إلى العناية المركزة التابعة للمستشفى الرئيسي، ولسوء حظّ رنيم؛ الأخت الصغرى، والميتة الحيّة، فلم يكن هناك إلا سريرٌ واحدٌ فقط شاغر وكانت مارية أسبق الأختين لهذا السرير، مما أدى إلى الإسراع بنقل رنيم إلى عنايةٍ أخرى، ما يعني أنها الآن تحت عناية فريقٍ آخر غيرنا.. انشغلتُ عن الاستعلام عن حالتها لفرطِ اهتمامي باستعادة مارية من براثن الموت، ولكني لم أنسَ أن أطمئن على رنيم بين الفينة والأخرى عن طريق الاتصال بالطاقم الطبي الآخر، والتي يبدو أنها غابت عن عالمنا تمامًا بفعل الغيبوبة.

-عُذرًا.. أين.. الاستقبال! أحتاج للتأكد.. من شيء.. ما!

قاطع أمسيتي الظلماء صوتٌ متهدجٌ كأنه فرّ من وحشٍ مفترس لأميال، صبيٌّ قد لا يتعدى العشرين من عمره.

-اهدأ وحاول استيعاب أنفاسِك قليلًا، من أنت؟ وعمَّن تبحث في الاستقبال؟

-أبحثُ عن عائلة الجنزاري، من بينهم ماريّة الجنزاري، وهي طالبة في جامعة أسيوط مثلي تمامًا (قالها بعد أن هدأ اضطراب أنفاسه) من المفترض أن جسمانها وجسمان أخويها هنا

كان حينها كما لو أنه يستعطفني بنظراته، أن أرأف بحاله الذي يُرثى له..

-أتمزح معي؟ من قال أن ماريّة قد ماتت!

هنا سقط الفتى أرضًا في ذهول، ومن بعد استفاقته من تلك الحالة لم يتوقف عن البكاء لوقتٍ طويل ظننتُ أنه ربّما قد انتسب للأبدية، بكاء أدمَع قلبي قبل عينيْ..

.
.
.
.

منشور: مالك أحمد
الساعة: الحادية عشرة قبل منتصف الليل

"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو أن تمتنعوا عن مشاركة المنشور الخاص بصفحة جامعة أسيوط فقد انتشر بسرعةٍ كبيرة كالنار في الهشيم، تأكدتُ بنفسي من رئيس الاستقبال بأن زميلتنا مارية ما تزال حيّة وحينما علم بهذا المنشور هاج في وجهي إذ لم يتبينوا بدقة حال الأسرة، وهذا هو الخبر الجيد، أما السيء فهو أنها في حالةٍ حرجة جدًا، استعلمت منه عن حالتها أكثر فأخبرني بأن أنفاسها قد توقفت فجأة وعلى أثرِ الصعقات استردت نبضها مرة أخرى.
أنا هنا لأطلب طلبًا إنسانيًا، وهو أن نقف بجانب زميلتنا إلى أن تعود إلى عافيتها مرَّة أخرى خاصةً بعد هذا الحادث الشنيع. سأبيت في المستشفى حتى أطمئن عليها، ومن أراد مجاورتها معي فسأصف مكانها حالًا.."


______________________
______________
______

❄️

متنسوش تعملوا ڨوت ده هيساعد الرواية جدًا. ☃️🤍

❄️

Comment