15- Legends.. never die.

(مارية)

مضت ثلاثُ ليالٍ على عودتي إلى المنزل، كنت قد وعدتُ عليًّا ورنيم بأني سأعود بقلبٍ غير القلب الذي سافرتُ به، وقد كان؛ ولكن ليس بنفس تخيّل عليّ ورنيم.. فقد أصبحتُ أكثر صمتًا، أكثر شرودًا، وأكثر سكونًا.. مما أثار حفيظة عليّ كثيرًا ..

هناك الكثير من الحكايات المنقوشة على جدران القلب، كلما هممنا لتحويل مسارها إلى أسطرٍ يمكن قراءتها، بقيت تلك الآلام الصغيرة المترسّبة في قيعان ذا القلب، تلك التي لا تقدر الأسطر على وصفها. ومن ثَم مرّت الأيام في رتابة شديدة ما بينَ حرّ الشدائد وبرد الرحمات الإلهية، حتى جاء من سِهام البؤس المصوّبة نحوي سهمٌ لم أقدر على تفاديه؛ وهو بِدء الامتحانات الخاصة بنهاية نصف العام الدراسي الأول، والتي اجتزتُها بصعوبة بالغة، بعد أن أخذت مني بقيّة طاقتي التي كرّستها لمحاربة أحزاني وآلامي.

انتهت الامتحانات وشرَعتُ في كتابة روايتي القصيرة التي لم اختر لها اسمًا حتى، تلك الرواية التي أفضيتُ فيها قريحتي، وبالمقابل سكّنت فيّ آلامًا كثيرة كانت تنبثق من الفراغ، الفراغ عدو المرء الأول في حَلَبة الشيطان.

 
- ألا تريدين التحدث معنا قليلًا؟ (قالت رنيم وفي نظراتها بعض العتاب الخفيف).

-  أفضِّل قضاء الإجازة الصغيرة في إنهاء روايتي.

-  لم تتفوّهي بأي كلمة مُذ رجعتِ من الرحلة، وهذا يُحزنني كثيرًا.. ويُحزنُ عليًّا أكثر.

 
-  أهذا صحيح؟ (استفهمتُ وأنا أفركُ رأسي من الصداع) ربما معكِ حق.. اسمعي يا رنيم، أنا أحترق من الداخل حريقًا لا دخان له، أنا حقًا آسفة، لا أدري ما بي.. لا أدري..

-  (تبسّمت رنيم وتبدّلت تقاسيم وجهها من العتاب إلى الراحة) لا عليكِ، لا أعتبُ عليكِ يا ماريّة، أنتِ تعلمين فقط ما أشعر به حِيال هذا البيت، ما يصيبكم يصيبُني في مقتَل، على كّل حال هناكَ عرضٌ ما ربّما يُسعدُك قليلًا قد اقترحه عليٌّ منذ قليل حينما كنتِ نائمة

-  ما رأيكِ أن تُحضريه ليقُصَّ علينا الاقتراح بالتفاصيل؟  

-  لا بأس (توجهت رنيم إلى غرفة عليّ في حماسٍ شديد)

 حينها ضغطُت على رأسي وفي عينيَّ بُكاءٌ لن تبكيه المُقل أبدًا، "على كل ذلك أن يتوقف، يجب أن أتوقف عن كل هذا التفكير وإلا جُننت!" ظللتُ أردد حتى جاءت رنيم بعليٍّ وفي وجهه أمارات الاستبشار بموافقتي على سماع اقتراحه، فما كان بوسعي غير أن استقبله باسمةً متهللة السرائر.

-  العمّة عبير وزوجها الأستاذ جمال بارك الله في عمريهما قد كلَّماني بالأمس، وقد أشارا إليّ بأنهما سيتركان النرويج إلى الإسكندرية بعد غدٍ إن شاء الله وسيقضيان أجازتهما في شقّتهما الوسيعة جدًا، واستحلفاني بالله أن آخذكما لقضاء بعض الوقت الممتع في الإسكندرية معهما، وسأكون معكما بإذن الله وربما نخرجُ كلنا من تلك الحالة الواجمة ونسعد بتلك الأيام القلائل، ما رأيكِ يا مارية؟

-  العمة عبير (قلتُ مستعجبةً) اشتقتُ إليها كثيرًا، لم أعلم بأنّا قد نراها قريبًا هكذا، أعتقد بأني موافقة..

 

**********

 
   انقطعت أخبار مالك، وعمر، وسارة، انقطعت أخبار الجميع عدا ريّان هي من ظلّت على إتصالٍ معي، كانت في بادئ الأمر مغمومة بتركي لها والسفر للإسكندرية، ولكم ما لبثت أن تجاوزت الأمر لعلمها بأن قلبي كاد أن يموت منّي موتةً لا حياة بعدها، كان عليّ أن أسافر، أن أرى زُرقة البحر التي تغوص فيها الشجونُ إلى قاعِ النسيان دون عودة، وليس كتلك التي سافرت فيها إلى القاهرة؛ بل سفرٌ يمتّع روحي في وجودِ بقيّة أهلي، في وجود فلذات كبدي المحترق.

حزمنا أمتعتنا، وكان عليّ قد طلب من صاحبٍ وفيّ له يُدعى "شهاب" أن يُقلَّنا بسيارته إلى الإسكندرية مع عِظَمِ المسافة؛ لأن رنيم تخافُ القطوراتِ وربّما بكَت بكاءً غزيرًا إذا ما مرّت بجانب قطارٍ ما، ووافق شهاب مُرَحِّبًا بطلب عليّ.

 
"هل جرّبت يومًا ترك كلّ شيءٍ وراءك والهرب بعيدًا إلى مكان لا تُدرِكُكَ فيه عيونُ أشجانك؟ وإذا ما كان نعم، فإلى أين تهرب؟ وهل يُعَدُّ الهروب في هذا الموضع تخاذلًا؟"

  كتبتُ المنشور ونحنُ في سيّارة شهاب، ومن ثَمّ قمتُ بنشره على فيسبوك، وحينما هممتُ بقراءة التعليقات أخذت رنيم هاتفي عنوةً من بين يدي، قائلةً بأن هذه رحلة استجمام وعلينا الابتعاد عن كل مُدخلات الحزن أكبر قدرٍ ممكن. كان عليّ في المقعد بجانب شهاب وأنا ورنيم في الخلف. وبعد أن قطعنا مسافةً ليست بالبعيدة عن مدينتنا ولكن لا بأس بها أيضًا، قال شهاب بأن عليّه أن يملأ السيارة بالبنزين مخافة أن تنقطع بنا في وادٍ لا نعرفه إذا ما انتهى مُدّخر البطارية من البنزين، وحَطَّ بنا إذ ذاك في محطةِ وقود ونزل معه عليّ ليساعده. كان الجو قارص البرودة، جوًّا يُثير نيران العاطفة لا يُطفئها.
 

-  ماريّة، ما رأيك أن نغنّي تلك الأغنية التي كانت أمنا تغنيها لنا في صغرنا؟  

-  هيا بنا (قلتُ مغتبطة مبتسمة إثر الذكرى) 

حينها أمسكت رنيم بيدي في حنانٍ بالغ، ثم شرعنا في الدندنة بعدها..

“Cold to core.. Cold to core

Oh, oh, but legends .. never die”

ثم عاد بعدها عليّ وصاحبه..

 
______________________
______________
______

❄️

متنسوش تعملوا ڨوت ده هيساعد الرواية جدًا. ☃️🤍

❄️


 

Comment