ليل الحمقاء

كان قلب آدم يخفق بعنف داخل صدره بعد أن انتزعته اليقظة من حلمه. ما زالت أنامل النوم متشبثة بأطراف عقله والخدر المربك يعبث بسائر جسده. صوت المبردة الإيرانية وهواؤها البارد ملآ غرفته، ورائحة الخشب المبلل اللذيذة التي تبعثها أغرقت أنفه، لم يمانع الرائحة الشبيهة بالوطن.

حدق في السطح ولم يجرؤ على الحركة. ما كان ذلك؟
هل لمس تلك الفتاة حقا في حلمه؟ آدم الذي يعد الفتيات والطاعون سيانًا ترك فتاة تلمسه؟ رفع يده إلى خده مكان لمستها، كانت ناعمة جدا، عكس الشعرات الشائبة الخشنة في مقدمة رأسها.

أصابعها كانت دافئة، ولكنها دافئة على نحو حار، مثل مناخ بغداد. جبينها كان حارًا أيضا، وكذلك أنفاسها التي لفحت وجهه. ترى كم مرة غلت تلك الفتاة غضبا حتى غدت بهذه الحرارة؟

أزال يده بارتباك حين استوعب فيما استغرقت أفكاره. مالذي يحدث له؟ لا يصدق أنه كاد يبكي لأنه لن يرى تلك المزعجة مرة أخرى.

ليل الحمقاء، ليل البرغوثة بعينيها الزرقاوين الوسيعتين لن تعكر صفو نومه مرة أخرى، لن تقتحم غرفته وتختبأ أسفل سريره، لن تسحبه أسفل سيكويا، شجرتها العملاقة السخيفة. لن تهرب معه من زفافه.

شعر فجأة بأن الإحباط قد داسه مثل قطار فنهض متأوهًا
من عظامه المتيبسة بسبب هواء المبردة ثم فرك عينيه ومط أطرافه ليتخلص من وهن النوم. شمس العصر حجبتها ستائر غرفته البنية ولم يبقَ منها سوى ضوء ضعيف.

نظر إلى شريط الحبوب الشفاف قرب وسادته، الحبة الزرقاء الآثمة بدت سوداء بسبب ظلام الغرفة. لا تأخذها يا آدم، ما نفعله خاطئ، قالت ليل الساذجة.

كيف سيتصرف حين تزورهم؟ كيف سينظر إلى عينيها الشبيهتين بساعات مدورة وكأن شيئا من تلك الأحلام لم يكن؟ لماذا حلم بها من الأساس؟ لماذا؟

كل ما يتذكره عنها هو أنها كانت طفلة أليفة على نحو أثار أعصابه، عندما قابلها آدم ذو العشر سنوات تمنى لو أنها كانت طفلة شمطاء شقية تلك التي سرقت اهتمام أمه، عله يبرر بذلك حنقه ناحيتها، عله يدفعها لتقع أرضا لأنها هاجمته.

لكن كل ما رآه هو صغيرة خجولة اختبأت خلف جسد أمه واسترقت إليه النظر بعين زرقاء كبيرة على نحو لم يره من قبل. زرقاء مثل دجلة ونصب الشهيد العراقي*.

زرقاء مثل الحبة الآثمة.

قبض على شريط الدواء بقوة بين أصابعه وخرج من غرفته نازلًا إلى الأسفل. يصبح بيتهم هادئا بعد العصر، لا شك أن والده نام بعد أن تناول غداءه وهلال يعمل في مناوبة مسائية، وخمن أن أمه الآن تجلس في المطبخ تحتسي كأس شاي بعد أن عادت من عملها في منزل السيد عدنان.

دخل إلى المطبخ فوجدها تجلس برفقة الخالة نازك، والدة ليل وكلاهما واجمتا المحيا. أمه تبدو غاضبة ولكن المرأة الأخرى ظهرت حزينة ومهضومة.

عندما كان آدم أصغر، لم يكن يعير هذه المرأة دائمة المرض أي اهتمام، ولكن الأمر تغير بعد مرور سنوات من دراسته للطب، إذ أصبح يلازمها كثيرا عند مرضها.

«ما بكما تجلسان وكأنكما في عزاء؟» سأل بلا مقدمات إذ لم يكن إلقاء السلام أحد عوائده.

أشاحت أمه بوجهها مستاءة فردت عليه نازك: «لا شيء مهمٌ، لا تشغل بالك يا عزيزي.»

نظر إليهما بشك فانفجرت ليلى غاضبة: «ليل لن تأتي في هذه العطلة مجددًا، حجج هذه الفتاة لا تنتهي، لقد مرت تقريبا ثلاث سنوات! تلك الفتاة بحاجة إلى شخص يشد أذنها.»

قطب حاجبيه وكره الخيبة التي أصابته، ولكنه نظر إلى الخالة نازك التي أطرقت تغالب دموع استيائها فشعر بالغضب. ألا تشتاق تلك الفتاة إلى أمها أبدا؟ حتى طفل في الحضانة سيعرف أن المرأة مريضة من نظرة واحدة، ألا يرق قلب تلك الحمقاء لحال والدتها؟

قبض على الدواء أكثر واقترب من أمه قائلا: «هل يمكنني استعارة هاتفك قليلا، أريد أن أحادث هلال ونفد شحن هاتفي.»

تنهدت أمه وناولته الهاتف بوجوم: «إن كنت ستتشاجر مع أخيك فاخرج إلى الحديقة، والدك نائم.»

أخذه منها وخرج من باب المطبخ متمتمًا: «فهمت.»

قطب حاجبيه من أشعة الشمس ثم فتح الهاتف حين ابتعد مسافة كافية ودخل إلى برنامج ماسنجر الذي لا تستعمل ليلى غيره.

أطرق آدم محدقًا في قائمة الأسماء.

ثم نقر على اسمها.


***

نصب الشهيد العراقي هو أحد المعالم المعمارية والحضارية في بغداد، ويمتاز بلونه الأزرق.

Comment