ضريبة الأحلام

جلست ليل بإرهاق على أحد المقاعد الخشبية في حديقة المشفى بعد أن أنهت جولة تعليمية دامت لأربع ساعات في قسم الطوارئ، منذ الثامنة صباحًا.. الرحمة!

ازدرت آخر رمق من قهوتها الخالية من الحليب وانكمشت ملامحها بتقزز من طعمها الكريه. كانت تكره أي شيء له علاقة بالقهوة ومشتقاتها، الرائحة وحدها تسبب لها الغثيان ولكن لا شيء غير هذا المشروب المزعج سيبقيها مستيقظة تجابه الحياة والإرهاق.

تنهدت بتعب مقاومة الرغبة في التقيؤ من المذاق وأعادت رأسها للوراء مستنشقة نفسًا عميقا من الهواء. إن كان هناك شيء واحد تحبه بخصوص ألمانيا فهو هواؤها البارد النقي، شيء لم تعتبره ليل من مميزات العراق.. التي يصبح ذهنها فارغا حين تفكر فيها.

ربما لأن العراق كانت مرتبطة بطفولتها الناشزة، بساعات خوفها الطويلة، والضلوع المكسورة والحزن العميق الذي ألمَّ بقلبها.. ولكن رغم كل هذا لم تستطع ليل أن تنتزع الأرض من لحمها. لقد علمها التواجد وحيدة في ألمانيا ألا شيء يشبه المكان الذي قدمت منه، الأصل الذي ينبثق منه الإنسان. لا شيء سيملؤ مكان العراق إن انتزعتها، وستظل تنزف بعدها دون أن يقدر طبيب أو دواء على تدارك النزيف.. مهما سممتها العراق، كانت ليل تحب وطنها الذي هربت منه، حتى على الرغم مما قاسته فيه.

هزت رأسها نافضة هذه الأفكار وفكت شعرها الذي هاش كي تربطه مجددا ثم أخرجت هاتفها من الحقيبة واتصلت بالرقم الأجنبي بعد تردد طويل. وضعت سماعاتها ورسمت على وجهها ابتسامة لم تناسب جسدها المنهار من فرط التعب، لكن المرأة على الجهة الأخرى استحقتها.

ربما ماما ليلى كانت هي ميزة العراق.

«وردتي الجميلة، لقد اشتقت إليك!» انبثق صوتها ذي البحة المميزة من الهاتف وليل جرفتها الذكريات وأغرقها الحنين.

«ماما، اشتقت إليك أكثر يا حبيبتي.» ردت وقد لان قلبها حين ظهرت الصورة وبانت ليلى بوجهها الأربعيني السمح. عيناها العسليتان محاطتنان بتجاعيد طفيفة وشعرها الأسود قد تطفل عليه الشيب ومع ذلك، وجدتها ليل جميلة كما تفعل دومًا.

تحدثت المرأة بلهفة وقد أشرقت عيناها بسعادة خالصة: «كيف حالك؟ كيف تسير أمور دراستك؟ لو تعلمين كم أفتقد وجودك بيننا. لم أعد أألف بيت السيد عدنان في غيابك. تكاد جدرانه تصرخ بأن ليل غير موجودة.»

«أنا بخير يا أماه. الدراسة متعبة ولكنني أتدبر أمرها بشكل ما.» سكتت قليلا تبتلع كذبتها ثم واصلت: «أنا أيضا أفتقد طعامك كثيرا، لا شيء يملؤ معدتي هنا. يبدو أنا البركة في يديك!»

بدا الاهتمام الصادق على وجه ليلى وقالت بألم: «آه عليك يا بنيتي، فقط لو يأتي أحدهم إلى ألمانيا لأرسلت لك أطنانا من الكبة والمحاشي. انظري إلى وجهك المصفر. لقد فقدت الكثير من الوزن، ألا يطعمك الأجانب هنا؟»

ضحكت ليل على تعبيرها ولم تخبرها أن الكبة والمحاشي ستتحول إلى كتلة من العجين ريثما تصل إلى هنا، وإنما تركت السيدة الطيبة تنفس عما في داخلها وتقبلته بصدر رحب.

«كيف حالكم أنتم؟ وكيف هو العم حازم؟ أوصلي له تحياتي.»

شربت ليلى من كأس الشاي الذي كان بجانبها وردت: «نحن بخير وفضل من الله. عمك حازم في الخارج مع والدك. وأنا عدت لتوي من منزلكم.»

لمحت ليل من خلفها المروحة السقفية والحوائط ذات اللون السكري فحَمّتها الذكريات. لم تذهب إلى بيتهم سوى مرة أو مرتين ولكن في هذه التفاصيل الصغيرة تختبئ العراق، في الجدران ذات الملمس الحبيبي والمراوح السقفية القديمة والشمس التي تكاد تكون جزءا ملتحما بخلاياها. وفي أثواب ماما ليلى المنزلية ذات القماش البارد والألوان الزاهية.

شربت السيدة الشاي مرة أخرى فأيقظتها من غفلتها. ترددت قليلا ثم سألت: «هل أمي وأبي بخير؟ لم أحدثهما منذ فترة سوى بواسطة الرسائل.»

«بخير يا حلوتي. والدتك تحسنت صحتها وهي تساعدني بحماس في التحضير لزفاف هلال.»

هزت رأسها برضا ثم ابتسمت وقالت: «لا أصدق أن هلال الذي أعرفه قد غدا شابا على مشارف الزواج. أشعر أنني كنت أشاجره على قطع الكعك بالأمس فقط!»

ضحكت وهي تتذكر الفتى الذي يكبرها بخمس سنوات يقسم الكعك بينهما بالعدل كما يدعي ولكنه يأخذ القطع الأكبر حجما بحجة أن معدتها الصغيرة لن تتسع لها. هلال كان يزعجها كثيرا في الصغر ولكنها أحبته رغم ذلك، لأنه كان شخصا مليئا بالبهجة والفرح. لم يكن أحد ليحمل نفسه على الغضب من هلال، الفتى الذي يمسح سيارة العم حازم كل يوم معتبرا ما يقوم به عملا بطوليا ويتابع مع أمها المريضة المسلسلات التركية المدبلجة بشغف لا مثيل له.

على عكس آدم الانطوائي الذي نادرا ما التقته، هلال كان جزءا لا يتجزأ من طفولتها وأختها.

تنهدت ليلى وردت مبتسمة: «نعم، لقد كبرتم يا أولاد بلمح البصر. هل تصدقين أنه لم يبق على تخرج أختك من الجامعة سوى عام؟»

نفت برأسها مع ابتسامة مشتاقة ثم تذكرت ذاك الحلم الغريب، الحلم الأول، حين رأت أختها مريضة ومرهقة الملامح. فدفعها القلق وسألت: «هل حواء بخير يا ماما؟ لا أسمع عنها كثيرا.»

الطريقة التي تغيرت بها ملامح السيدة قبضت قلبها. ترددت الأخيرة برهة ثم أجابت: «تقول أنها بخير ولكنها ليست على طبيعتها منذ مدة. قبل أسبوع تقريبا تدهورت صحتها واضطررنا إلى إبقائها لليلة في المشفى. ولكنها أفضل الآن، لا تقلقي.» طمئنتها بابتسامة فأومأت ليل بقلة حيلة ولكن صدرها بقي منقبضا.

شعرت فجأة بألم داهم رقبتها على غفلة ثم انتشر في رأسها فقطبت ملامحها بألم لأنه كان نابعا من الداخل، وكأنه يسير في دمائها. تنهدت محاولة تجاهله ثم نظرت إلى ساعتها لتدرك أن موعد الحافلة سيفوتها وقد تضطر للانتظار ساعة أخرى حتى موعد الحافلة القادمة.

قالت بينما تنهض وترمي كوب قهوتها الفارغ في سلة المهملات: «ماما ليلى، موعد حافلتي اقترب. علي أن أذهب الآن ولكنني سأهاتفك عما قريب. اعتني بنفسك وأوصلي تحياتي للجميع.»

«حفظك الله يا بنيتي. سأنتظر اتصالك، انتبهي وأنت تقطعين الشارع.»

«سأفعل، إلى اللقاء!» ودعتها بابتسامة ثم أغلقت الهاتف وحشرته مع السماعة في حقيبها على عجل وهي تهرول كي تلحق غايتها.. لكن السماء الضبابية بدأت تتداخل مع الأفق وعيناها تحرقان على نحو غريب. رمشت محاولة ترطيبهما ولكن بدلا من أن تحل المشكلة داهمها الألم مجددا.

فركت جبينها وطمأنت نفسها أنه الإرهاق لا أكثر، فقد كانت هذه الأعراض تزورها من حين لآخر طول الأسبوع الماضي ثم ثختفي بعد وقت قصير. ولكن الأرض اختفت من أسفل قدميها هذه المرة وفقدت ليل إحساسها بالمكان وقدرتها على الإدراك. عرفت من الرؤية المشوشة والألم الأعمى الذي انتشر في مؤخرة رأسها أن جسدها قد هوى أرضا والتحمت أطرافها مع الرصيف.. ولكن كل الذي فكرت فيه وهي تودع الضوء هو: هل تكون هذه ضريبة الأحلام؟

Comment