الديار

عندما استيقظت ليل، شعرت وكأن قطارا قد داسها. كل عظمة في جسدها بدت كقطعة حديدية صدئة لم تتحرك منذ زمن.

تأوهت بينما تطرف بعينيها محاولة حمايتها من الضوء ولكن إضاءة المكان اللطيفة ساعدت عينيها على التأقلم سريعا فاستطاعت أن تبصر سقف المشفى التعليمي التابع لجامعتها ورائحة المعقمات التي تألفها جيدا لفحت أنفها.

استغرقت بضع لحظات قبل أن تندفع الأحداث الأخيرة إلى رأسها وتجعلها تفتلت تنهيدة متعبة. لم تعرف كيف تبدي رد فعل منطقية تجاه ما حدث. هل تخاف مما حدث؟

كان هناك آلاف التعليلات الطبية التي احتشدت في رأسها مفسرة ما أصابها وكلها كانت كارثية فاختارت ليل تجاهلها كي لا تدخل في نوبة هلع هي في غنى عنها.

أدرات رأسها بحثا عن شخص تسأله ولكنها تجمدت حين وجدته جالسا على كرسي قرب سريرها يتصفح هاتفه بملل لاح واضحا على ملامحه. قطبت حاجبيها تكذب ما تراه ولكنه كان هو بشحمه ولحمه، آدم.

«مالذي تفعله هنا؟» سألت في أوج دهشتها فخرج صوتها مبحوحا على نحو مثير للشفقة. رفع عينيه البنيتين الواسعتين لينظر إليها ثم ضيقهما يتفحص وجهها بطريقة أصابتها بالارتباك. نهضت متجاهلة أنين عظامها لأن عقلها الذي يجن قد كان أهم ما يشغلها الآن.

شمس الغروب الخجولة صبت عسلا في عينيه حين رسم ابتسامة وجدتها ليل سخيفة وقال: «أُشبع شوقك إلي. واجهي الأمر يا فتاة، أنت تهذين بي.»

قبل أن تتمكن من الرد صوت آخر لفت انتباهها: «أرى أنك قد استيقظت آنسة ليل، كيف تشعرين الآن؟»

نظرت إلى الممرض الشاب الذي أزاح الستارة حول سريرها وأخذ يدون شيئا في اللوح الذي يمسك به. عادت برأسها إلى حيث كان يجلس آدم مجددا فجف ريقها حين لم تجد له أثرا. هبط قلبها بين قدميها.. المزعج محق، كانت تهلوس.

به.

«آنسة ليل؟» استرعى الممرض الأشقر انتباهها بقلق فردت رغما عنها: «لا أشعر أنني بخير. جسدي متعب جدا و..» بلعت دون جدوى إذ كان فمها جافا: «رأسي مشوش، أرى أشياء.» كان الخوف يتمكن منها رويدا رويدا. ليست سوى مسألة وقت قبل أن تنهار.

سأل بنبرة عملية مستفزة: «أي نوع من الأشياء تحديدا؟»

أشاحت بوجهها وردت بمرارة: «أشياء آراها في أحلامي غالبا. منذ متى وأنا على هذه الحال؟»

«منذ الأمس. جسدك كان متعبا وعلقنا لك بعض المغذيات كي تستردي عافيتك.»

فركت وجهها بتعب فتنهدت الأخير وجلس على الكرسي الذي كان بجانب السرير قائلا بنبرة متعاطفة هذه المرة: «آنستي، لقد خرجت نتائج فحوصاتك قبل دقائق.. وجدنا مضادات اكتئاب في دمك. ونحن نظن أن العقار غير ثابت، مكوناته فوضوية وسلوكه غير متوقع داخل الجسد. هل تفهمين ما ألمح إليه؟»

نظرت إليه بملامح شاحبة وفكرت مطولا، هل تخبره؟ لقد خرج الأمر عن حده ولا فائدة من تلافيه بعد الآن. ردت بنفس نبرتها المبحوحة: «حدث الأمر عن طريق الخطأ. ذهبت لأبتاع مكملات غذائية وصفها الطبيب لي ولكن الصيدلي كان.. حسنا، غريب الأطوار وأظنه أعطاني الدواء الخاطئ بغير قصد. لم اكتشف الأمر سوى مؤخرا.»

نظرت حولها باحثة عن حقيبتها فسحبتها من على الأرض بأنامل مرتجفة وأخرجت منها علبة الدواء حيث بداخلها شريط احتوى حبة واحدة. أكملت مبررة موقفها: «كل شيء مكتوب بالفرنسية، لذلك لم انتبه لوجود خطب ما.»

ليل كانت تمقت صفوف اللغة الفرنسية.

تنهد الألماني الأشقر وأخذ العلبة يقلبها بين يده ثم أخرج الشريط وقرأ ما كتب عليه. نظر إليها ثم قال: «إنه عقار تجريبي. هذا خطير.. هل تريدين رفع دعوى قضائية ضد الصيدلي؟»

تنفست بعمق وهزت رأسها نفيا: «ما حدث قد حدث، يكفي أن نبلغه بما حصل كي يتوخى الحذر مستقبلا. الجميع يخطئ.» ليل كانت في طريقها لتصبح طبيبة، الأطباء يرتكبون الأخطاء طوال الوقت، بعضها قد يودي بحياة أحدهم، ولكنها طبيعة البشر.. خطاؤون. الاستمرار رغم هذه العثرات والتعلم منها كان السبيل الوحيد لإنقاذ المزيد منهم.. تلك الكائنات التي تفرز الكارثة كما يقول سيوران.

نظرت إلى أصابعها وعبثت بعلامة الحرق القديمة عند مفصل إصبعها الصغير... جزء منها كان ممتنا للخطأ الذي ارتكبه الصيدلي. جزء منها احتاجه.

قال الممرض بينما ينهض ملوحا بعلبة الدواء: «سآخذ هذا معي. الطبيب المقيم سيمر لتفقدك ويقرر ما إذا كان بإمكاننا إخراجك من المشفى.. الأعراض الجانبية ما تزال غير معروفة أو متوقعة وقد رأيت ما حدث لك.»

أومأت له مستسلمة فمنحها ابتسامة مواسية: «استدعني في حال احتجت شيئا.» ثم تردد قليلا قبل أن يخرج من جيبه كتيبا ناولها إياه. نظرت إليه بتردد ثم إلى الكتيب الأزرق وقرأت بالألمانية:

  مركز آلبرت تزفايش للتأهيل
  النفسي

«أعتقد أنها كانت تجربة قاسية. البقاء بعيدا عن الديار قد يستنزف الإنسان، آنسة ليل. ربما عليك التفكير بشأن الموضوع.» قال الممرض الذي قرأت أن اسمه مارك على بطاقة تعريفه قبل أن ينسحب تاركا إياها تصارع الأشباح داخل رأسها.

البقاء بعيدا عن الديار يستنزف الإنسان، والبقاء فيها يهلكه أكثر. وليل شعرت بأن آخر قطرات جأشها تتسرب من بين أصابعها، وقبضة قوية أطبقت على صدرها تمنع عنها الهواء.

وضعت الكتيب في حقيبتها وأخرجت من الجيب الصغير حبة الدواء التي قطعتها من الشريط المعدني في وقت سابق..  كانت في كل مرة تفكر بأخذها ترجع عن قرارها حتى اهترأ غطائها من كثرة ما عبثت أصابعا المترددة به. تنهدت وأخفته مثل إثم ثقيل داخل الجيب الصغير مجددا.

لا أحلام بدون ثمن.

وهي ليست متأكدة من مقدرتها على دفعه. 

Comment