الحلم الثاني

هناك حركة وديعة للظلال ولكن لا أصوات البتة. الجو مكسو بألوان العصر الخجولة وهناك نسمات هواء خفيفة داعبت قلبها.

نظرت ليل إلى الهاوية السوداء السحيقة التي أحاطت الأرض أسفل قدميها وعبست، هل هذه حدود عقلها؟ ألم يتمكن من رسم أرض كاملة على الأقل؟

لفتت نظرها حركة الظلال على العشب الأخضر واستدارت بفضول لمعرفة مصدرها فتلاشى استياؤها وكله ورفعت رأسها فاغرة الفاه حتى كاد عنقها ينكسر إلى الخلف.

«يا إلهي!» صوت متعجب تكلم بجانبها فالتفتت إلى آدم الذي ظهر من حيث لا تعلم.

سألته بتشوش من وجوده ومن الأُنس المريح الذي راود قلبها بحضرته: «مجددا؟ ماذا تفعل في أحلامي؟»

تجاهلها وقد اتسعت عيناه البنيتان حتى كادتا تبتلعان الحلم بأكمله وقال محدثًا نفسه: «هذه بلا شك أضخم شجرة أبصرتها في حياتي..» وفكر لبرهة ثم عدّل: «أو حلمتُ بها.»

«هذه سيكويا.» قالت فالتفت إليها كما لو أنه انتبه توًا لوجودها فأكملت مصححة: «وهذا حلمي أنا، أنا الفتاة التي تحلمُ بالأشجار هنا.»

«سيكويا؟» تجاهل احتجاجها مجددا لكنها ابتسمت إذ راقها اهتمامه بمخلوقاتها المفضلة.

«سيكويا، أو شجرة الماموث، الفصيلة الأضخم في العالم. أليست معجزة؟»

«معجزة مسالمة وجميلة.. إلا إذا كانت تبتلع الآخرين لتغدو بهذا الحجم، إنها لا تفعل ذلك، صحيح؟»

قلبت عينيها ثم اقترب لتحقق حلمها الذي يتلخص في عناق الجذع الضخم وغمره بالحب العامر في قلبها. «كلا، لا تفعل. إنها عتيقة ودائمة الخضرة.. معجزة!»

«وهل تعرفين ما هو أفضل شيء تفعلينه أسفل معجزة؟»

«كلا؟» نفت بشك وهي تشاهده يفترش الأرض ويتوسد أحد ذراعيه ثم أجاب: «النوم!»

ابتعدت عن جذع الشجرة واقتربت لتجلس بجانبه تتأمل تقاسيمه المسالمة. لا أصوات حولهم، فقط نسائم تداعب شعرها كليم الألق وخصلاته البنية اللامعة لتفرقها عن جبينه الذهبي.

«أستطيع الشعور بك تحدقين بي، هل أنا وسيم لهذه الدرجة؟»

أجفلت من كلامه المفاجئ قبل أن ترد على سؤاله الفظ: «بل غريب أطوار، هل تنام فتحلم لتنام في أحلامك؟»

«إنها المكان الوحيد الذي أستطيع الاسترخاء فيه بعيدا عن مناهج الطب الدراسية الضخمة التي تعكر صفو حياتي. أنا مصاب بالأرق، النوم حدث نادر بالنسبة لي لذا بالتأكيد سأفضل النوم في أحلامي.» فتح عينيه الناعستين ونظر إليها فحسدته على اللون البني البديع الكامن فيهما.

لكم تمنت لو أنها ورثت عيني والدها الخضراوين أو العيون السوداء من أمها بدل اللون الأزرق المريع الذي تمتلكه. لطالما أشعرها لو عينينها الأزرق البارد بالتوتر والنفور من نفسها، الزرقة فيهما كانت جامدة ومحشوة بكآبة عميقة غير متجانسة تزعج الناظرين.. وكأنهما طبقتان من جليد تلسعان روحها.

«ها أنت تحدقين مجددًا. الحلم الذي قبله اتضح أننا مخطوبان، هل تنوين الزواج بي في هذا؟»

«يـ.. يال وقاحتك! أنت الشخص الذي يتطفل على أحلامي هنا!»

عبس ونهض مدافعا عن حقه: «ذاك الحلم كان خاصًا بي، كنت أحلم بإجراء عمليتي الجراحية بسلام حتى ظهرت أنتِ وأصبح المريض ابن أختك القاصر التي شاخت فجأة!»

ابتسمت بسخرية وردت عليه: «نعم، العملية الجراحية التي نمتَ أثناءها وابن أختي المزعوم كان سيموت لو لم أوقظك عندها، وحلمك بأكمله كان سيتحول إلى كابوس لولاي، عليك أن تشكرني!»

«إنه حلمي، سأنقذ المريض أو أنام وأقتله إن أردت، ما شأنك أنتِ؟»

عقدت ذراعيها أمام صدرها وردت: «شأني أنه ابن أختي.»

نظر إليها بملل قائلا: «أختك في التاسعة عشرة، لا يمكن أن تكون أما لمراهق.» هز كتفيه بلا مبالاة استفزتها فاعترضت: «ألم تكن أنت من قال أنها في السابعة والثلاثين تلك المرة؟ هل تغير الوضع الآن؟»

قلب عينيه بنفاد صبر ورد: «بالطبع تغير، كان مجرد حلم رسمته عقولنا البائسة المشتتة!» ثم اقترب منها أكثر من اللازم فتراجعت بجذعها للخلف في حين تحدث بسخط: «لكن أتعلمين مالذي لم يتغير إلى الآن؟»

«مـ ماذا؟»

«هذا!» رفع يده اليمنى في وجهها لترى حلقة زرقاء مشعة حول بنصره فاتسعت عيناها لأنها نفس الحلقة التي رأتها في يدها من قبل!

سأل بهدوء مريب بينما ينظر إليها: «هل تعلمين ما هذا يا ليل؟»

هزت رأسها بتردد وقد وثب قلبها حين نطق اسمها، هو يعرف من هي أيضا، هو يتذكرها.

«هذا خاتم خطوبة، كيف بحق الجحيم اقتحمت حلمي وأوقعتني في هذه الورطة!»

طرفت باستيعاب لكلامه قبل أن تدفعه للخلف وتعتدل بجذعها قائلة: «ولماذا لا تكون أنت من أوقعتني في هذه الورطة؟ كيف أعرف أنك لم تستدعني إلى حلمك من الأساس، فلمَ قد أحلم بشخص التقيته مرة واحدة في حياتي؟»

تأفف وعاد ليستلقي مرددًا بطريقته الفظة: «مرة واحدة دامت لأسبوعين، تذكرين؟ أرجو أنها لم تكن مدة كافية لتقعي في حبي حتى أعلق معك في أحلامي.»

لقد كان فظا هكذا عندما التقته أيضا، صريح في مشاعره أكثر من اللازم. ربما لهذا السبب علق في ذهنها، فقد كانا متشابهين في صفات لم يمتلكها غيرههما.

كلاهما امتلكا كرها غامضا تجاه الجنس الآخر، كلاهما كانا سريعي البكاء، وكثيري البكاء.. وربما كلاهما عاشا نفس السنين التعيسة الماضية، ثم علق كلاهما أيضا في نفس التخصص المرهق الذي حصلت بسببه على خصل رمادية في شعرها.

على نحو غريب وغير متماثل، اتفقا مع بعضهما البعض.
ربما لهذا السبب شعرت بالأنس نحوه.

ضمت ركبتيها إلى صدرها ورفعت بصرها حيث سيكويا. «لو كنت واقعة في حبك لما شعرت بالأنس معك بهذه الطريقة.» قالت، خجلة من اعترافها.

نزع عينيه من السماء ونظر إليها باستغراب مما تقول، هل هذا مديح أم إهانة.

تنهدت بثقل ووضحت: «أنا مصابة بالفيلوفوبيا -رهاب الحب-، لو أنني أمتلك مشاعر مثل هذه ناحيتك لكنت الآن خائفة ومتقززة، أمتلك نبضات قلب متسارعة -من الرعب لا من السعادة- ومصابة بنوبة هلع وأريد النفاذ بجلدي بعيدا عنك. هذا بالتأكيد ليس ما أشعر به ناحيتك.»

قطب حاجبيه واستند على ذراعيه رافعا جذعه: «تشعرين بالإنس معي، ولست واقعة في حبي؟»

رمت جسدها على الأرض مستلقية بجانبه وأكدت: «غالبا، كأنك صديق قديم.»

هز كتفيه: «أنا كذلك فعلا.»

قلبت عينيها ونفت: «لست كذلك، عرفتك لمدة أسبوعين منذ عشر سنوات.»

سخر منها: «وها نحن مخطوبان!»

كمشت ملامحها بقرف قائلة: «لسنا كذلك، إنه حلم! لا بد أن يكون لهذه الحلقات معنى.»

«الحلقات في البنصر الأيمن تعني الخطوبة.»

«لا أعرف بشأن ذلك، ثقافتي الاجتماعية ليس في أحسن حالاتها، لكن لا بد أن يكون لها معنى آخر.»

تثاءب بنعاس وانقلب على جنبه موليا إياها ظهره: «أيا يكن، لقد سئمت منك ومن ثقافتك الاجتماعية المتدنية، أفضل النوم.»

هزت رأسها بيأس من ردوده المزعجة ثم سرحت تفكر في ذلك المصطلح الذي قالته.. رهاب الحب.

لمَ ليل مصابة برهاب الحب؟

لقد كان لها عم أفقدته حرب العراق ذراعه وعقله؛ ومعلمة أحبتها ليل الصغيرة بكل مهجتها. امرأة شابة كأنها الشمس في طلعتها، لها ثغر سحري، ينطق بتلك الكلمات الحلوة، المبهمة الوقورة التي كانت تؤجج في ليلٍ نار الفضول الممتعة كي تفقه معناها. كانت المرأة الأولى التي حدثت تلميذات صفها عن النساء العظيمات اللاتي تجاهلهن التاريخ، والوحيدة التي أخبرتها في ذلك الحين ألا تصغي للحدود التي رسمها المجتمع الأبوي لإناثه.

لكن عم ليل تزوج المعلمة، وأفلت الشمس إلى الأبد.

اختفت سيكويا واختفى آدم وحل الظلام. تسلل البرد وتعشعش في عظامها، ثم انتفض جسدها المشلول بسبب صرخة فزعة ملتاعة، ودوى وقع ضربة زرَّقت جلدها وشرَّبتْ السم فيه.

كان يضربها، وليل تراه، والجميع ساكتون.

يفرقون بينهما لحظتها، ولكن كل شيء يعود كما كان، وتعود ضلوع المعلمة مكسورة في كل مرة يقرر العم أنها امرأة عاصية لا تسمع كلامه.

شتائم قاذعة، صراخ من الجهتين، خصل شعر مُقتَلَعة وضلوع مكسورة.. آه كم أرادت ليل أن تصلحها آن ذاك.

أغمضت عينيها وخدشت الكلمات أذنيها بقسوة:

هذه شؤون عائلية ليس لنا يد فيها، عمك عصبي حدا يضربها لأنها تستفزه بأفعالها ولكنه شخص جيد في الواقع، هما يحبان بعضهما.

قال والدها حين سألته أن يفعل شيئا لإنقاذ المسكينة. تذكرت أن عمها قد ربت على رأسها مرة ووهبها قطعة حلوى حين كانت صغيرة.. هل هذا كافٍ ليكون شخصا جيدًا؟

كلا؛ عمها لم يكن شخصا، بل بقاياه.. هل كانت ذراعه ما تنقصه أم عقله؟

لا تعرف إجابة هذا السؤال، ولكنها عرفت مصير معلمتها. ماتت فور وصولها المشفى في إحدى جولاته. ماتت كيس ملاكمة لبقايا شخص، لمجنون.

ماتت وتركت ليل المسكينة بنت التسع سنوات خلفها، ترتعش من الحب إلى الأبد.

ترتعش من الرجال، من عمها المشوه، ومن والدها المحب الذي لم يضع حدا لمجون أخيه.

وترتعش من النساء، من نهديها ورحمها وبشرتها الناعمة وشعرها الحريري الأسود. لم ترِد ليل أن تكبر لتصير امرأة مضروبة، وفجأة استحالت أنوثتها عارًا يلاحقها.

مات عمها بعد ذلك بسنتين في السجن وكان أسعد يوم في حياتها، لطالما آمنت أن كائنا تالفًا ومشوها مثله لم يعد يصلح للوجود.

ثم راودتها تلك الفكرة المرعبة، إن ليل مشوهة مثله.. لقد مستها ضرباته وإن لم تصل جلدها، لقد تلوثت بشتائمه وزعيقه للأبد، لم تعد امرأة ولم تعد طفلة.

لقد طالتها لوثة جنونه، فهل تصلح هي للحياة؟

كان ذاك السؤال هو بداية دوامة حربها الخاصة، الحرب التي خرجت مُندَّبَة منها ولكن ناجية، بخصل شعثاء قليلة.

كانت ناجية،
ولكن الحرب عالقة في تفاصيلها.

ليل، حيّة.

ولكن ضلوعها بحاجة للإصلاح.

Comment