الحلم الأول

إنه يوم مثل كل الأيام، كانت تجلس فيه على كرسيها المتحرك أمام المكتب الخشبي وكتاب المادة الضخمة التي عليها الانتهاء منها قبل موعد الامتحان.

تمارس عادتها السيئة في طوي ساقيها رغم الوضعية المريحة التي يوفرها المكتب بينما السماعة محشورة في أذنيها وصوت أستاذها يشرح عبر التسجيل الذي زادت سرعته إلى الضعف كي تسابق الوقت وتتمكن من مجاراة التيار الجامعي العنيف.

لكنها ورغم ضيق الوقت وكل هذه التدابير الاستعجالية، لم تكن تفقه شيئا مما تسمع لأن عقلها المشتت قد سرح مجددا في مكان آخر بعيد جدا.

تنهدت بثقل عندما يئست من محاولة التركيز ونزعت السماعات من أذنيها ممتعضة من عدم قدرتها على الانتاج ثم خطفت هاتفها ورمت جسدها بعنف على السرير.

عادة سيئة أخرى لا تقلع عنها رغم توبيخ الجميع. تفحصت بخمول التطبيقات الموجودة عليه دون أن تجد شيئا مثيرا للاهتمام فتأففت متململة ورمته بجانب رأسها.

نظرت إلى السقف حيث المروحة تتحرك بوتيرة منتظمة، تزيد الجو الربيعي لطفا من حولها. كم تحب هذا الوقت من السنة! عندما تجوب الجو الدافئ نسمات هواء منعشة ولطيفة، ترهف القلوب وتبعث فيها الحياة بعد شتاء قاس طويل. لكن مجرد تذكر كمية المواد والضغط الدراسي  جعلها تنتحب بصوت مسموع لأنه حرمها الاستمتاع بالوقت الفريد الذي تحبه من السنة.

حولت نظرها عن السقف إلى حافة المكتب حيث تموضعت علبة دواء مفتوحة وقد نقص من شريطها المعدني حبة زرقاء.

غالبها النعاس ممزوجا بالشك عندما تذكرت ذاك الصيدلي شارد الذهن. كان يبدو منهمكا في محادثة مهمة على هاتفه حين أعطته وصفة الفيتامينات الطبية التي كتبها الطبيب بعد أن عجز عن اكتشاف سبب الأعراض الغريبة التي تعاني منها وقد جاءت كل الفحوصات طبيعية.

أمراض جسمانية نفسية، هذا ما قاله. أعراض مرضية تظهر على المريض دون وجود سبب طبي مقنع ويعتقد أنها تنشأ نتيجة معاناة طويلة الأمد مع الاكتئاب والضغط النفسي. 

تباطئت أنفاسها بهدوء وثقلت عيناها منجرفتان نحو هاوية النوم بينما تشبث دماغها بفكرة أخيرة.. لقد تعافت من اكتئابها صحيح؟

هي لم تعد الشخص نفسه، إذن لماذا يراودها شعور الوحدة المرير هذا؟

غشي الظلام كل شيء.

***

عندما فتحت عينيها كان سكون غريب يسيطر عليها. المكان حولها هادئ جدًا عدا عن صوت منتظم ميزته فورًا، صوت جهاز القلب ذي الوتيرة الثابتة الذي تسمعه كثيرا.

العتمة تسود الغرفة التي تقف فيها بينما الإضاءة مركزة فوق رأسها مباشرة. رائحة الدماء مختلطة بالأنسجة المحترقة نتيجة الكي والعقاقير الطبية لفحت أنفها وميزت لَيل المكان فورا، إنها غرفة العمليات وهناك مريض بشق كبير عند حوضه وحوله أدوات معدنية عريضة تبقيه مفتوحا. 

أمعنت النظر إلى جسده جيدا تحاول تمييز ما يحدث بين كل تلك الدماء فاكتشفت أن هناك كلية متموضة هناك وقد خيط أوعيتها الدموية إلى الأوعية الحوضية بينما الحالب كان يرشح مادة شفافة من نهايته المفتوحة.

اتسعت عيناها حين أدركت أن هذه هي عملية زراعة الكلى التي كانت تحاول بيأس مذاكرتها دون أن تستطيع التركيز وقطبت حاحبيها باستنكار من هذا الحلم الغريب؛ فأي جراحة تلك التي تخلو من الممرضين والجراحين المساعدين وأخصائي التخدير؟

انتُزِعَت من أفكارها عندما فاضت الدماء من الجرح وتحركت يداها نحو ما اعتقدت أنه آلة الشفط ثم بدأت تتدارك الوضع بمعرفتها البسيطة قبل أن يتجمد جسدها حين أدركت أن هناك شخصا آخر غيرها والمريض في هذه الغرفة.

نظرت إلى يسراها فرأت شابًا في زي الجراحين بدا أنه قد وصل إلى هنا قبلها، قفازاه الملطخان بالدماء جعلاها تستنتج أنه من قام بهذه العملية حتى الآن ولكنه توقف بسبب.. النعاس! حيث أن عيناه كانتا تُغمضان وتفتحان بسلام ورأسه يدتلى ثم يفيق حابسا إياه في حلقة مفرغة بين النوم واليقظة.

ارتخت عضلاتها ببطء حين ضربتها موجة مفاجئة من الألفة نحوه.. هذا الشخص، هي تعرفه! إنه ابن السيد حازم سائق عائلتها، والدته الخالة ليلى كانت مدبرة المنزل وصديقة حميمة للعائلة، لكن مالذي أتى به في أحلامها؟ آخر مرة رأته فيها كانت قبل سنوات عديدة،  وتلك كانت المرة الوحيدة في الواقع.

لكن لمَ تشعر أنها معتادة عليه في هذه اللحظة؟ وكأنه معها منذ وقت طويل. هزت رأسها طاردة كل تلك الأفكار ثم لكزته بمرفقها وقالت كما لو أنها تحادث صديقا: «استيقظ.»

أجفل إثر لكزتها وانفتحت عيناه البنيتان على وسعهما. رمش عدة مرات قبل أن ينظر إليها نظرة خاطفة ثم عاد يستكمل إجراء العملية قائلًا: «أوشكنا على الانتهاء. لا تقلقي، ابن أختك سيكون بخير.»

«ابن أختي؟» صاحت مستغربة ثم نظرت إلى وجه المريض الذي كان مراهقا في الرابعة عشرة.

«لكن أختي في التاسعة عشرة، أنى يكون لها ابن بهذا العمر!»

«أختك في السابعة والثلاثين.» أجاب بنبرة متمكنة وثابتة يستخدمها الأطباء المتغطرسون بينما تتحرك يداه بمهارة لإتمام الخطوات الأخيرة.

«أين بقية الطاقم الطبي؟ ولمَ نجري عملية كهذه ونحن في الحادية والعشرين؟ لم نتخرج بعد!»

لم يرد فقلبت عينيها ثم استدارت خالعة القفازين الملوثين وكمامتها متجهة خارج هذه الغرفة السخيفة.

«هل كل شيء بخير؟»

تراجعت بعض خطوات للوراء عندما ظهرت أختها الصغرى في وجهها بملامح قلقة. شعرت بالاشتياق فهي لم ترها من سنتين وتأملتها مقطبة الحاجبين للحظات تحاول أن تلتقط التغيرات الجوهرية التي طرأت
عليها.

تبدو هذه النسخة أكبر سنًا من أختها التي اعتادت عليها، وقد أضفى النضج تغييرا ملحوظا على ملامحها. لكن الأبرز من كل هذا كان علامات المرض والإجهاد التي تحدد ملامحها الذابلة.

وجدت نفسها ترد دون وعي: «نعم، كل شيء بخير. آدم سينتهي قريبًا.»

بدا الارتياح على وجه الأخرى فتهاوت جالسة على مقعدها: «شكرا للسماء! آسفة لأنني أخرت حفلة خطوبتكما، ولكنني لم أستطع أن أأتمن أحدا غيركما على حياة ولدي.»

لوحت بيدها نافية وقالت: «كفاك سخفا، ابنك أهم من كل هذا.»

تجمدت يدها في الهواء واتسعت عيناها. خطوبة؟

بمَ تهذي هذه؟ هل يعقل أن هذا أحد كوابيسها التي تتورط فيها بزواج عشوائى ثم ينتهي بهلعها ومحاولتها الهرب ليلة الزفاف؟

لكن تبًا، هناك أمر أفظع يجري هنا.. هي، هي لا تشعر بالهلع المعتاد. الأمر لا يبدو بذلك السوء وهذا حتمًا خاطئ؛ لأن الأمر كان دائما بذلك السوء بالنسبة لها.

ابتلعت ريقا، ما هذا الحلم الغريب؟ ولمَ اختفى المشفى وانشل جسدها؟ ولم أنفاسها لم تعد قادرة على الفرار من رئتيها؟

Comment