الحلم الأخير

أصوات الزغارد وضحكات النساء تسللت إلى أذنيها فنظرت ليل حولها بارتباك قبل أن تستوعب أنها تقف في قاعة أفراح والجميع كان يرقص يتمايل على أنغام الأغاني في أبهى حلة.

هل هي تحلم بزفاف هلال؟

تحركت لتبحث عن أي وجه تعرفه ولكنها تجمدت حين شعرت بشيء غريب في قبضة يدها. أخفضت بصرها ببطء إلى باقة الورود التي تمسكها فتوقف عقلها عن العمل.

ثم عاد حين لاحظت أنها ترتدي فستانًا أبيض اللون.

«تبًا!» همست برعب حين استوعبت أنها العروس ونظرت حولها بهلع. لمحت أختها حواء تضحك مع رفيقاتها بين النساء، كانت شابة هذه المرة، جميلة وبراقة كما تعهدها.

لطالما كانت حواء الأخت الأجمل بينهما، الأخت الألمع والأكثر أناقة. كانت فتاة مثالية وتضج بالشباب، وشعرها الكستنائي الطويل الذي ورثته من أمهما كان خاليا من الشعرات البيضاء الشائبة.

«تبًا تبًا!» خرجت من شرودها حين لمحت أمها وليلى تسيران ناحيتها وتحملان صينية عليها الكثير من الأشياء البراقة كانت تراها دائما في الأعراس.

قامت بسرعة من على كرسي العروس المزين ورمت باقة الورود جانبا ثم مسحت يديها المتعرقتين بثوبها، هل هذا انتقام من نوع ما؟ هل تنتقمان منها لأنها لن تعود؟

خلعت حذاءها ذا الكعب العالي وأطلقت ساقيها للرياح بحثا عن مخرج من هذه القاعة الصاخبة. واصلت الركض ودفعت الأجساد التي وقفت في طريقها غير آبهة بالنداءات باسمها حتى خرجت من القاعة إلى ممر مكيف.

دخلت أول غرفة أمامها فاكتشفت أنها المطبخ. أغلقت الباب خلفها ثم اتجهت نحو براد المياه بأنفاس لاهثة وشربت بنهم كوبا من المياه الباردة.

صفعت الكوب الزجاجي على الطاولة الرخامية ثم نزعت قطعة الدانتيل القماشية التي كانت مثبتتة على رأسها ورمتها على الأرض بملامح متقززة. بدأت تندم حقا على على ابتلاع تلك الحبة، كيف ستستيقظ الآن؟

قبل أن تستطيع ليل الغرق في أفكارها أكثر انفتح الباب بعنف ودخل آدم الهلع ثم صفعه وأدار القفل كي لا يتمكن أحد من الدخول. انتفضت في مكانها حين اهتز الباب بسبب طرقات عنيفة من الجهة الأخرى وتعرفت على صوت هلال الذي صاح بغضب: «آدم، افتح الباب لا يمكنك الهرب من زفافك!»

«على جثتي! انقلع من هنا قبل أن أحطم وجهك! إنه خطؤك أنت، أنت تتزوج وأنا أحصل على الكوابيس. لا ترمِ بمصائبك على رأسي!»

«آدم، تعقل وافتح الباب. الناس والعروس ينتظرون، لا تصبني بالجنون من تصرفاتك!»

خلع المعني ربطة عنقت وصاح بانزعاج: «اذهب وتزوجها أنت، ما دخلي أنا؟»

«لا فائدة من النقاش معك، سأذهب وأحضر أبي.» صاح هلال بحنق من الجهة الأخرى ثم سمعت صوت خطواته تبتعد حتى غدت غير مسموعة. زفر آدم بانزعاج وتراجع ينظر حوله فاتسعت عيناه حين انتبه لوجودها. قطب حاحبيه ملاحظا فستانها الأبيض فصاح متذمرا: «الرحمة! هل أنت العروس؟ ماذا تفعلين مجددا في أحلامي؟ لم أنت هنا؟ ألا يمكن للمرء أن يهرب من زواجه بسلام؟»

حرك ذراعيه متذمرا فارتفع حاجباها من وقاحته وردت بحدة: «الرحمة منك أنت! ألن تكف عن إقحامي في زواج أخيك؟»

«أنت، كفي عن إقحام أنفك في أحلامي!»

هزت رأسها باستنكار وتمتمت: «أنت لا تصدق.»

وضع يده في جيب بنطاله وهز كتفيه بلا اكتراث: «لست العروس التي حضرت زفافها بلا مستحضرات تجميل. يمكنني رؤية هالاتك من مكاني هنا. أنت التي لا تصدقين.»

«مـا ماذا!» لمست وجهها بحركة لا إرادية قبل أن تهز رأسها لتعود إلى رشدها وهتفت: «أنت وقح جدا يا هذا، ما شأنك بهالاتي؟»

اتجهت نحو الثلاجة وقالت لترد له الصاع صاعين: «على الأقل سرحت شعري، انظر إلى نفسك، هل صعقك أحدهم بسلك كهربائي قبل أن تأتي إلى هنا؟»

نظر إلى الأعلى وبدأ يرتب خصله الواقفة قائلا: «لقد كانت مرتبة ولكنني نمت عندما سئمت من ثرثرة هلال، ثم شعري في أسوء حالاته أبهى من هالاتك- ليل ماذا تفعلين؟» تراجع بحذر حين أخرجت طبق بيض من الثلاجة وحملت واحدة لتتفحصها.

«لا شيء أفضل من البيض لتستخدمه على مهووس نظافة.»

هربت الدماء من وجهه وتراجع للخلف محاولا إثناءها: «ليل تعقلي، هل ستعبثين بالنعمة؟ أنسيت المجاعات حول العالم؟»

هزت كتفيها بلا اكتراث. «إنه حلم في النهاية يمكنني العبث كما أشاء.» أغمضت عينا واحدة وصوبت بيضة بالقرب منه فقفز برعب من مكانه.

أخذت بيضة أخرى وسألت: «ماذا كنت تقول عن هالاتي مجددا؟»

التصق بالباب وصاح: «أبدا! الجمال الطبيعي يفوز دائما، حتى أنني إن فكرت يوما بالزواج فسأختار عروسا لا تضع مساحيق تجميل في زفافها. وهذا الفستان، إنه لامع!»

«حسنا، هذا مختلف عما سمعته قبل قليل.» ابتسمت بانتصار ووضعت طبق البيض جانبا فنظر إليها بحقد ونبس:

«بربرية!»

«مختل نظافة!»

«مهووسة أشجار!»

«مدمن نوم!»

«مقتحمة أحلام-»

انتفض كلاهما حين طرق أحدهم الباب بعنف فتراجعا مقتربين من بعضهما وتوقفا عن تبادل الإهانات.

«آدم، أقسم إن لم تخرج إلى عروسك الآن فسأمنع عنك منظفات ديتول إلى الأبد.» وصلهما صراخ والده الغاضب من الجهة الأخرى فضحكت ليل غير مصدقة وهمست له: «لا أصدق! هل يهددونك هكذا حقا؟ هذا أمتع شيء سمعته في حياتي.»

دفعها بغيظ وصرخ لوالده: «على جثتي! لن أخرج وأترك كل أولئك النسوة ينثرن علي الحلويات ويثقبن أذني بالزغاريد. ثم عروسي هنا من الأساس، دعوني وشأني!»

«لست عروسك!» ضربته على كتفه فتأوه ونظر إليها بانزعاج.

«كيف هنا؟» سأل والده بشك ثم طرق الباب بشكل أعنف: «آدم ماذا فعلت بالفتاة! سأسلخ جلدك ما إن أراك!»

«هي من فعلت بي وليس أنا! لقد رمتني بالبيض! لماذا أنت عنصري ضد الرجال؟»

«تستحق هذا!» وصله صوت هلال فضحكت ليل بتشفٍ بينما أخذ آدم نفسا ليسيطر على أعصابه. كيف ينتهي هذا الحلم الكارثي؟

«أنظر، هناك باب مؤدٍ للخارج.» لكزته مشيرة إلى الباب  فأسرع كي يفتحه عله يكون مخرجهم إلى أرض الواقع ولكن هيهات.

«يا إلهي!» تمتمت ليل بذهول عندما تبعته إلى الخارج، الشوارع كانت خالية من أي بشر.

«لنخرج من هذا المبنى الجهنمي قبل أن يحطمه أبي فوق رؤوسنا، لا أصدق أن هذا يحدث، سأخنق هلال حين أستيقظ.»

«إلى أين سنذهب؟»

«إلى مكان لا يمكنهم تزويجنا فيه، وما أدراني إلى أين سنذهب!»

«أريد العثور على محل ثياب، سأتقيأ إن بقيت في هذا الفستان أكثر.»

خطف نظرة جانبية إليها وتمتم: «تقيئي، إنه بشع على أي حال.»

رفعت ثوب الزفاف الكريه كي تتمكن من المشي وردت عليه بحدة: «إن تقيأت فسأفعلها على ملابسك. لا تثر أعصابي.»

نظر إليها بغير تصديق وهتف: «أنت مقرفة حقا، هل تعانين خطبا ما في عقلك؟»

«أليس هذا واضحا؟ لدي مشكلة هنا.» أشارت إلى رأسها وأضافت: «خصوصا تجاه الأوادم، إنهم يثيرون أعصابي.»

«الرحمة!» هتف من جدالاتهما التي لا تنتهي.

«مهلا! ذاك محل ملابس، لندخل إليه.» تركته قبل أن يرد فما كان منه إلا أن يتضجور ويتبعها. دخلا إلى المحل الذي كان فارغا فأسرعت تنتقي ثيابا لترتديها بينما وقف آدم أمام المرآة يحاول ترتيب شعر الفوضوي.

«أفضل بكثير!» نبست ليل حين خرجت من حجرة تبديل الملابس فالتفت إليها، كانت قد ارتدت ملابس رياضية سوداء وانتعلت حذاء مريحا. اتجهت إلى قسم المجوهرات والتقطت رباط شعر كي ترفع شعرها.

«ألا تريد تبديل ملابسك؟ هناك قسم رجالي في المكان.»

نظرة إلى نفسه نظرة تقييمية ثم مسح على كتفه باختيال وقال: «كلا، أبدو وسيما فيها.»

هزت رأسها متنهدة وخرجت من المحل تتساءل عما سيفعلانه الآن. الجو كان حارا حتى في الحلم، نخيل العراق العالية متفرقة في كل مكان، طويلة وخضراء بهية. السماء زرقاء صافية والشوارع الإسفلتية لمعت أسفل الشمس الحارقة.

خرج آدم خلفها يرتدي رياضية خفيفة هو الآخر فرمقته بطرف عينها وقالت ساخرة: «ظننتك بدوت وسيما فيها؟»

«الجو حار وتلك الملابس ذات خامة ثقيلة. تخيلي كمية البكتيريا التي سأسبح فيها إن تعرقت؟»

هزت رأسها بيأس منه ثم سألت تنظر حولها: «ماذا سنفعل الآن؟»

اقترح بحماس لمع في عينيه: «لنذهب إلى جسر الشهداء، أحب ذلك المكان.»

قطبت حاحبيها بسبب الشمس ونظرت إليه، عيناه كانتا ذهبيتين أسفل أشعتها. رموشه خفيفة ولكنها طويلة، الأمر الذي منحه مسحة أنثوية جميلة امتزجت بتجانس مع ملامحه الصبيانية. ظللت عينيها بيدها وقالت: «نحن في حلم آدم، لا نعرف حتى أين نحن، كيف سنذهب إلى هناك؟»

هز كتفيه وسار أمامها: «فكري فيه وسيظهر أمامنا.»

لحقت به وردت: «أفكر في أن عليك أن تقلل من مشاهدة الأفلام.»

«أفكر في أن عليك الكف عن التشاؤم.»

«يقول المتذمر من الطراز الأول.»

توقف والتفت إليها. كان أطول بكثير، على نحو بغيض. تكتف وسأل بجدية مصطنعة: «صدقا، كم طول لسانك يا ليل؟»

قلبت عينيها وتجاوزته سيرا إلى الأمام لكنها ردت: «لا تخف، إنه أقصر من لسانك.»

«أشك في ذلك.»

رفعت سبابتها في وجهه بتهديد وقالت: «كلمة أخرى وسأعطس في وجهك!»

نظر إليها بقرف وهز رأسه: «لا أصدق أنك طبيبة.»

تجاهلته كي تنهي هذا الجدال فسارا بصمت بعد ذلك. اتسعت عينا ليل حين ظهر الجسر أمامهما بعد فترة من المشي.

«لقد ظهر حقا!» هتفت متفاجئة فرد آدم بابتسامة متغطرسة: «أخبرتك، إنها الأحلام.»

سبقها فتبعته بصمت، كان محقا، لا شيء كالأحلام.

لاح دجلة جاريا من أسفل الجسر والنوارس البيضاء حلقت حوله بأسراب فوضوية فاقتربا من سوره يستمتعان بالمنظر الجميل.

انتبهت ليل مجددا إلى الألفة العزيزة التي لفتهما. لم تكن متأكدة إن كان آدم حقيقيا، إنه موجود على أرض الواقع، ابن ماما ليلى الانطوائي، لكنها لا تعرف إن كان آدم الذي في حلمها يشعر بالأنس نفسه الذي يمنحها إياه، لم تدرِ إن كان يشاركها أحلامها فعلا أم أنه مجرد خيال نسجه عقلها المتعب، ولكنها لم تبالي.

يمكن لهذه الأحلام أن تكون سرها الجميل، وموطنها عند التعب، حتى وإن كان هذا هو الحلم الأخير.

أسندت ذراعيها على السور وحطت برأسها عليهما، تراقب النهر في خمول.

«هذه كانت حبتي الأخيرة.» قالت فجأة فنظر إليها، عيناها زرقاوان مثل دجلة، دائريتان على نحو ساذج ومكللتان بأهداب كثيفة وفوضوية. ليل كانت ضربا من ضروب الفوضى، ولكنه لم يمانعها.

قال متجاهلا الشعور المرير في صدره: «ما زالت لدي واحدة، هل أستعملها لأحلم بأنني أخنق هلال؟ ليلى ستطردني من المنزل إن فعلتها على أرض الواقع.»

ضحكت ثم اعتدلت وهزت رأسها نافية: «كلا، تخلص منها يا آدم. وإن كنت قادرا على الحصول على المزيد فلا تفعل. ما نفعله خطر جدا، وخاطئ.»

التفتت إليه فوجدت نظرة حزينة على وجهه، هل هو مستاء؟ شعرت بالاستياء مثله، إنه حلمهما الأخير.

«ولكنه جميل.» قال مستسلما وتفاجأت حين رفع كفه إلى خدها، ذهلت من البحة الهشة في صوته، والطبقة الزجاجية على عينيه الناعمتين، عندها أدركت ليل أنها في الحقيقة كانت أُنسه مثلما كان أُنسها.

بتردد وشوق، رفعت هي أيضا يدها إلى وجنته وقابلت عينيه الحزينتين بزرقاوين كدرتين. أسندت جبينها على جبينه ونظرا إلى الأسفل فملأتهما الحسرة.

جبينه دافئ جدا ضد جبينها، أنفه احتك بأنفها وتصافعت أنفاسهما مثل شعوب حائرة. تمسكت يدها بسور الجسر وأغمضا عينيهما فاختفى الأنس.. وبقيت الحسرة.

***

كنا نعانق في الظلام دموعنا
والقلب منكسر من العبـرات
هذه النهاية لم تكن أبدا لنا
هذه النهاية قمة المأساة
ما كنت أعرف والرحيل يشدنـا
أني أودع مهجتي وحياتي

فاروق جويده

***

تنويه: ما زال هناك فصلان أخير وخاتمة.

Comment